في أيار 2021، بعد موجة من المواجهات العنيفة في المدن المختلطة، لمع بريق أمل نادر: عشرات الشركات الإسرائيليّة، سواء من كبرى شركات الهايتك أو من تجارة التجزئة، تطلق حملات إعلاميّة تدعو للحياة المشتركة، المساواة والمجتمع المشترك. يافطات كبيرة ملأت الشوارع وإعلانات تجاريّة زيّنت الصحف ووسائل التواصل الاجتماعيّ- والرسالة واضحة- الآخر ليس عدوًا، بل شريك.
لم يكن تداخل قطاع الأعمال في النهوض بالمجتمع المشترك نِتاج توجّه إيديولوجيّ فحسب- بل كان نابعًا من سيرورات معمّقة في الواقع الاقتصاديّ لدولة إسرائيل. في السنوات الأخيرة، تسارعت وتيرة اندماج المواطنين العرب في قطاعات الهايتك، الصحة، المواصلات والخدمات. مهندسون وطبيبات ومندوبو تسويق وسائقون عرب يعملون بدافع الالتزام ويحظون بتقدير عالٍ. المجتمع العربيّ تحوّل إلى مجتمع استهلاكيّ مؤثّر، مع ثقافة استهلاك متقدّمة وقدرة شرائية كبيرة. الشركات التي أدركت ذلك أجادت بناء علاقات حقيقيّة- ليس كمشغّل فحسب، إنّما أيضًا كعلامات تجاريّة تحتاج لكسب الثقة والتأييد على نطاق واسع. هكذا تحوّل المجتمع المشترك من تصريح أخلاقيّ إلى استراتيجيّة تجاريّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
كان تجنّد قطاع الأعمال على نطاق واسع بعد أحداث أيار 2021، إلى جانب الانضمام التاريخيّ للقائمة العربيّة الموحّدة إلى الائتلاف، عبارة عن رياح مواتية دفعت النشاط المدنيّ قدمًا. حظيت مؤسّسات مثل چڤعات حبيبة بشرعية أخلاقيّة ومؤسّسيّة سمحت لها بتوسيع نطاق نشاطها، وتبلورت شراكات يهوديّة-عربيّة، والتي أخذت تنمو بنجاعة وبوتيرة مشجّعة ومطمئنة.
خلال شهور معدودة فقط، أحرزت نتائج ملموسة على أرض الواقع: الطواقم المختلطة في المشافي لم تقدّم علاجًا طبيًّا مهنيًّا فحسب، إنّما خرجت أيضًا بتصريح مدنيّ واضح حول قابلية التعاون في الأزمات؛ الشراكات في قطاع المواصلات العامّة أتاحت المجال لمئات آلاف المواطنين بتلقي خدمة تجمع بين اليهود والعرب في الحيز العام؛ وفي أماكن عمل عديدة، اعتُمدت أعراف الشراكة المتكافئة، الاحترام المتبادل وتعدّد الآراء.
في تلك الفترة، بدا وكأنّ إسرائيل نجحت في صياغة معادلة لعلاج الشرخ بين مجتمعاتها المحليّة. قطاع الأعمال، الذي يعتبر عادةً محايدًا أو منعزلًا، تحول إلى لاعب اجتماعيّ ووكيل تغيير ذي أثر عميق. الحملات الدعائيّة لم تبدُ مجرّد رسائل إعلاميّة، بل تصريحات بالمسؤوليّة المدنيّة. ولكن في ذروة النجاح هذا- حدث الاختفاء.
الأحداث التي تلت السابع من أكتوبر 2023 شكّلت نقطة انكسار جديدة، حادّة ومؤلمة في العلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل. وفقًا لأبحاث چڤعات حبيبة وأكورد، نشهد في السنتين الأخيرة تفكّكًا مقلقًا للنسيج المدنيّ المشترك: الثقة تزعزعت، الشعور المتبادل بالأمان تبدّد والحيّز العام أصبح مشحونًا، متوتّرًا وأحيانًا معاديًا أيضًا. المخاوف الشخصيّة حدّدت شكل السلوكيّات العامّة، ومشاعر النفور لم تقتصر على شبكات التواصل الاجتماعيّ، ووصلت إلى ساحات المدارس، الشوارع وأماكن العمل.
برز لدى أبناء الشبيبة، جيل المستقبل، بشكل خاصّ توجّه مقلق: عنصريّة واضحة، زيادة أثر المضامين المتطرّفة وغياب أطر تربويّة مؤثّرة تشجّع على الشراكة والحوار. الخطاب السائد تحوّل إلى صراخ، بينما تحوّل الحوار إلى صمتٍ مدوٍ. الشعور بقابلية بناء مجتمع مشترك، والذي تعزز بفضل جهود حثيثة بذلت على مدار العقدين الأخيرين، تلاشى تقريبًا.
يبدو أنّ التاريخ يعيد نفسه. يشبّه العديدون الأجواء الراهنة بالفترة التي تلت أحداث أكتوبر 2000، حيث حدث شرخ عميق، تحوّل إلى مقاطعة متبادلة ساد خلالها خطاب الشيطنة. عقد كامل مضى حتى تمكّنا من العودة إلى مسار الإصلاح. مسار الإصلاح هذا لم يتحقق عرضيًّا، بل تطلّب تجنّدًا من قبل جمعيات، كوادر تربويّة، نشطاء مدنيّين-وخاصةً شراكة مع الجمهور كلّه. أما الآن، إنّ لم يكن هناك تجنّد حقيقيّ وممنهج واسع النطاق، من المحتمل أن يتسع عمق هذا الشرخ. لسنا واثقين هذه المرة من احتمال التعافي، ولسنا واثقين ممّا إذا كانت لدى المجتمع الإسرائيليّ الموارد والرغبة في خوض هذه التجربة مرة أخرى.
في حقبة يزداد فيها الاستقطاب ويتبلور فيها وعي قاطع ومتعنّت ويواجه فيها المجتمع الإسرائيليّ تحديًا مدنيًا صعبًا، تختفي الأصوات الإيجابيّة والجامعة ويحل مكانها الصمت. منذ السابع من أكتوبر، اختار قطاع الأعمال، بعد أن كان في السابق مصدرًا للأمل والتجنّد النموذجيّ، التنصّل من مسؤوليته الاجتماعيّة والسير خطوة للوراء. المشاريع التي كانت موجّهة نحو بناء مجتمع مشترك- حملات، إعلام مجسّر، شراكات بين قطاعات مختلفة- اختفت من الحقل، والحيز الذي تُرك خاليًا امتلأ خلال فترة وجيزة بأصوات النفور والعداء والشيطنة المتبادلة.
دخلت إلى هذا الفراغ مجموعات ذات أجندات تعزّز الاستقطاب: شباب التلة، نوى توراتيّة، داعمي بن غفير وأمثالهم، أنصار أيديولوجيا لا تعتبر الشراكة قيمة، بل تهديد. بواسطة التمويل، الخطاب الفظّ والحضور المتزايد في مختلف الأطر في الحيّزين التعليميّ والعام، نجحوا في إملاء سردية متطرّفة تتغلغل داخل جهاز التربية والتعليم، السلطات المحليّة وسوق العمل أيضًا.
تراجُع قطاع الأعمال ليس مجرّد تنصّل من المسؤوليّة، إنّما أيضًا إضاعة للفرصة. من كانوا يومًا شركاء لبناء فضاءات تشاركيّة، يفسحون الطريق الآن لفئات هامشيّة لفرض خطابها. قد تكون هذه المباراة أرضيّة خصبة لتعميق الشرخ، تحويل الخطاب العام إلى خطاب تهديد سيضعضع الاستقرار الاجتماعيّ والاقتصاديّ لدولة إسرائيل على المدى البعيد.
سلبية قطاع الأعمال ليست موقفًا محايدًا. الصمت في الفترة الحاليّة هو موقف يفسح المجال للأصوات المتطرّفة بفرض سيطرتها. إنّه الوقت المناسب لخروج المصالح التجارية من مخبأها والتعبير عن موقف واضح. في المصالح التجاريّة التي تجمع بين طواقم يهوديّة وعربيّة- فإنّ مسؤوليتها ليست أخلاقيّة فقط، إنّما عمليّة أيضًا. فهي قادرة على بناء وتصميم فضاءات آمنة وبلورة أعراف قائمة على الحوار المدنيّ، لغرس بذور الأمل.
المجتمع المشترك القائم على الاحترام، المساواة، الشراكة والاعتراف المتبادل، ليس مجرّد غاية اجتماعيّة إضافيّة، إنّما أيضًا ركيزة أساسيّة للاستقرار الاقتصاديّ ولازدهار المنطقة. فهو يسهم في تطوير مناطق جغرافية وُضعت على مدار سنوات طويلة على هامش الاقتصاد، يخلق فرص عمل مبتكرة وبعزّز من قدرة الاقتصاد على التعامل مع الأزمات.
بعد أحداث أيار 2021، بدأت المصالح التجاريّة في إسرائيل تدرك أنّ النهوض بمجتمع مشترك لا يقتصر على إصلاح العلاقات، إنّما يشمل أيضًا بناء آلية تجاريّة حكيمة قائمة على التنوّع الثقافيّ، تطوير رأس المال البشري وتوسيع الأسواق. ولكن مع تراجع الحوار حول المجتمع المشترك، وعلى ضوء الاستقطاب التالي لأحداث أكتوبر 2023، باتت هناك حاجة لمعاودة خوض سيرورة عميقة وملزمة في قطاع الأعمال.
لم يعد بإمكان الشركات الإسرائيليّة، خاصة تلك التي تجمع بين طواقم من عدة خلفيات، وتقدّم خدماتها لجماهير متنوعة، السماح لنفسها بالعمل وإدارة نشاطها بمعزل عن الواقع الاجتماعيّ. المجتمع المشترك ليس مجرد شعار، بل مسؤوليّة أخلاقيّة، اقتصاديّة ومدنيّة.
مقالة محمد دراوشة، مدير الإستراتيجيّة في چڤعات حبيبة، على موقع محادثة محليّة.