من يعرف أيّ الفواكه بيضاء اللون؟” تسأل المعلّمة. يسود الصمت، وترمي هيّ كرة ورقيّة باتجاه محمد. يجيبها هو: “موز، أناناس، إجاص، تفاح”. تطرح المعلّمة سؤالًا مكملًا: وأيّ من هذه الفاكهة ليس دائريّ الشكل بل طويل؟”، وترمي الكرة باتجاه نعيم ليجيبيها فورًا: “الموز”

“أبي عاد من السوق، ماذا أحضر معه؟”، يسأل المعلّم في الصف المجاور، ويجيب الطلاب وفقًا لنوع الفاكهة أو الخضار الذي يمسكه بيده. تقام في صفّ ثالث فعالية مختلفة قليلًا ولكن عن نفس الموضوع: تمسك المعلّمة بمبشرة وتسأل: ماذا نبشر بها؟”- “جزر…مممم… جبن”، تجيب إحدى الطالبات. وهكذا دواليك. تارة مع شوكة، وتارة مع صحن، أو لوح تقطيع وسائر أواني المطبخ.
الساعة الآن العاشرة صباحًا، والطلاب الجالسون في نصف دائرة، من الصف السابع حتى التاسع، يصبّون جلّ تركيزهم في الدرس الذي تمرّر المعلّمات، اللواتي يتحدّثن معهم بالعبريّة فقط. هواتف الطلاب جُمعت ووضعت داخل كيس في غرفة المعلمين، لتقليل عوامل التشتيت والملهليات. بعض الفتيات محجّبات والبقية ليسوا محجّبات. مقياس الخجل- أو عدمه- متكافئ لدى الفتيان والفتيات، وجميعهم لا يتحدّثون العبريّة تقريبًا.

مخيم جسر الزرقاء

بعد الاستراحة، يعلو الضجيج من غرف الصفوف. تسمع من الممر ضربات قوية على الطاولات. كلا، لم يفقد الطلاب تركيزهم- إنّهم يهرسون البسكويت داخل الكيس ليصنعوا منه كرات الشوكولاتة. في صف آخر، يهرس الطلاب الأرُز فوق الطحالب البحريّة لصنع لفائف السوشي. الفتيات، وبعض الفتيان، يسدّون أنوفهم بسبب رائحة النبات البحريّ ولا يستطيعون المشاركة في الفعاليّة.
هذا نَتِن؟ تعيشون بجوار البحر وهذه الرائحة تزعجكم؟” تتساءل المعلّمة متعجّبة، وبحق. نحن في إعدادية “السلام” في جسر الزرقاء. هؤلاء الطلاب رأوا واستنشقوا واشتموا رائحة البحر منذ ولدوا، في القرية الصغيرة الواقعة بين قيسارية ومعغان ميخائيل. تقع المدرسة عند الطرف الشماليّ، ويمكننا أن نرى من هنا برك الأسماك التابعة لمعغان ميخائيل ووادي الزرقاء، والذي انتصب فوقه الجسر الأصليّ مع المياه الزرقاء التي منحت البلدة اسمها هذا.
في نهاية اليوم، جلسوا لتناول أعواد الفواكه، سلطة الخضار، السوشي وكرات الشوكولاتة- والتحدّث فيما بينهم. نحو 50 فتى وفتاة، من الصف السابع حتى التاسع، حضروا هذا الأسبوع إلى مخيّم اللغة العبريّة، الذي يمتد لخمسة أيام كاملة، مجانًا لجميع المشاركين بدون أيّ استثناء. دروس تشمل فعاليّة تعليميّة ممتعة ومرنة خلال الإجازة الصيفيّة. شمل هذا الأسبوع أيضًا زيارة إلى عين شيمر وچڤعات حبيبة، التي تدير مشروع “لغة مشتركة”.
المخيّم الأول خلال هذه الإجازة أقيم في جديدة المكر- وكان من المفترض إقامة مخيّمات أخرى- ولكنّ الحرب غيّرت سير الأمور وحالت دون اختتام البرنامج. في الشتاء المقبل، من المتوقّع إقامة مخيّم لطلاب المرحلة الثانويّة. المعلّمون المرشدون في المخيم يعملون خلال السنة كمعلّمين نظاميّين في مدارس عربيّة.
الطلاب الذين حضروا إلى المخيّم يجيدون العبرية بمستوى مبتدئ. المعلّمون العاملون معهم هم ربما أول أشخاص يهود بالغين يلتقون بهم شخصيًا في حياتهم اليوميّة، وخلال اليوم، نرى أنّ علاقة شخصيّة ودافئة تنشأ بينهم- وعلى الأغلب، فإنّهم سيتذكّرون هذا اللقاء لسنوات طويلة. في فترة تسود فيها الريبة والعداء المتبادلين، يُعتبر ذلك إنجازًا ملحوظًا.
المعلّمون مؤهّلون ويحظون بمرافقة لتدريس العبريّة في چڤعات حبيبة، ولكن بالإضافة إلى المهارات القياديّة والمعرفة البيداغوجيّة، يبدو أنّهم ولدوا مع قناعة داخليّة تسمح لهم بجذب الانتباه والاهتمام- حتى خلال الإجازة الصيفيّة. لا يخشى المعلّمون الخروج من الصفوف بينما يقطع الطلاب الخضروات لتحضير السلطة ويهرسون مكوّنات الأطباق على الطاولة، وكلّ شيء يمرّ بسلام.
الأطفال متشابهون في كل مكان، ولا يبدو على مظهرهم أنّنا متواجدون في إحدى البلدات الفقيرة في البلاد. يوجد في جسر الزرقاء أكثر من 3,500 طالب، %34 منهم ينهون المرحلة الثانويّة مع شهادة بجروت، ونصفهم يقبلون للجامعات.
يعمل السكان أساسًا خارج البلدة، وداخل البلدة، لا يتعاطون تقريبًا مع اللغة العبريّة. يصعب على الطلاب الإجابة عن السؤال: متى تحدّثتم مؤخّرًا اللغة الوطنيّة الرسميّة في البلاد. قال بعضهم إنّهم يتحدثون قليلًا مع الأهالي، وفي المركز التجاري في أور عكيـڤا، وإنّهم يعرفون عيدان بن زاكين، وبضع أغانٍ أخرى على يوتيوب.
تبدو البلدة مهملة قليلًا، والشوارع الضيق تحتاج لترميم طارئ. على خطّ الساحل الأول، يبرز مشروع سكنيّ جديد، دخل إليه السكان اليهود الأوائل. النزل الذي افتتح قبل بضع سنوات في مركز البلدة، وحيث أقيمت أيضًا دروس للغة العبريّة، تحوّل إلى دكّان. في يوم الاثنين هذا الأسبوع، كانت المطاعم على الشاطئ وفي مركز البلدة مغلقة، وأخيرًا، وجدت عند طرف الشارع كشك فلافل شهيّة، أتى مالكه من المنزل خصيصًا لتحضيرها.
في المقهى الواقع في مركز البلدة، قال شاب إنّه تعلّم العبريّة عندما كان يذهب مع أبيه للعمل. أصدقاؤه يدرسون في الجامعات في إسرائيل، الضفة الغربية، الأردن وبلدان أخرى.
“طلاب الناصرة ليسوا طلاب الجديّدة، وهم أيضًا مختلفون جدًا عن الطلاب الذين نلتقي بهم اليوم في جسر الزرقاء. المجتمع العربيّ يضمّ شرائح سكانيّة مختلفة، كالمجتمع اليهوديّ، وعلينا إجراءات الملاءمات اللازمة”، يقول إيتاي كوهن، 41 عامًا من رمات دافيد، وهو مرشد هنا في المخيّم ويعمل خلال السنة في الناصرة والجديّدة.
“في المدرسة، أدرّس أساسًا بشكل وجاهيّ، وهنا، نمرّر المضامين في مجموعات أصغر- نحن نريد تحفيزهم على التحدّث أكثر وممارسة العبريّة المنطوقة. في كثير من الأحيان، يغيّرون طريقة تفكيرهم ويكتشفون أنّهم يجيدون هذه اللغة. العبريّة ليست مستخدمة هنا كثيرًا، لأنّ اللغة العربية متاحة لهم أكثر، وعند التمرّن على ممارسة اللغة العبريّة- يكتشفون أنّهم يجيدون ذلك. البارحة تعرّفوا إلى بعضهم البعض، اليوم يتقاسمون الطعام، غدًا، يوم رياضيّ.
“تعلّمنا مفردات كثيرة، وبعد قليل سنطهو، سنقطع الموز على لوح تقطيع، وسنتمرّن على استخدام المفردات التي تعلّمناها. طريقة التعلّم هذه عمليّة أكثر من قراءة كتاب، كما تعلّمنا نحن. عندما نتحدّث نفس اللغة- يمكننا أن نفهم بعضنا البعض، التحدّث عن الصعوبات أو إدارة محادثات عاديّة. هذه الطريقة حقًا ناجعة، وحضوري هنا هو أيضًا انكشاف على ثقافة أخرى- والعكس صحيح”.
اللغة العبريّة هي عائق كبير أمام الطلاب من المجتمع العربيّ، والذين يتحدّثون العبريّة كلغة ثانية- وربما ثالثة أيضًا، بعد الإنجليزيّة التي تحتل مكانة مهمّة أكاديميًّا. في المدرسة، يتعلّم الطلاب النحو ولا يتكلّمون العبريّة تقريبًا، ونحاول في هذا المخيّم كسر هذا الحاجز.
إنّها مسألة ثقة وممارسة، وعند الممارسة وخوض تجربة النجاح، ندرك أنّها ليست مسألة ذكاء. أنا أشجّعهم على ارتكاب الأخطاء، وعندما يسيطر عليهم الخوف من ارتكاب خطأ أو عندما يسخر أحد منهم، أساله: “لماذا تضحك؟”. لا داعي للخوف من اللغة- يمكننا بكل بساطة أن نقول: “عذرًا، كيف نقول هذا أو ذاك”؟ تقول المعلّمة غالي شبيتسر، التي تدرّس العبريّة في مدارس في أم الفحم وبرطعة.
مستوى الخوف يقلّ لدينا نحن أيضًا- فهم لا يشاركوننا نفس الحيّز في الحياة اليوميّة. وزارة التربية والتعليم تريد الحصول على نتائج سريعة، ولكن ما يهمّني هو منحهم الثقة، وأدمج في عملي بين الجانبين العاطفيّ والمنطقيّ. لديّ خلفية باللغة العربيّة، ويهمّني أن أفهم ثقافتهم، ولكنّي أحرص على التواصل معهم بالعبريّة. لا أدرّس بلغتي لأنّها أفضل، بل لأنّها اللغة الرسميّة- ويتوجّب عليهم استخدامها”، تضيف شبيتسر.
مركز چڤعات حبيبة الواقع على مشارف وادي عارة ويدير المخيّم، هو من أكبر مؤسّسات المجتمع المشترك في إسرائيل. المعلّمون الـ 30 الذين يتأهّلون فيه ويحظون بمرافقة دائمة، يدرّسون اللغة العبريّة في مدارس عربيّة. في چڤعات حبيبة، ندرّس أيضًا العربيّة، ندير غاليري للفنون، وقبل بضع سنوات، أقمنا مدرسة دوليّة يتعلّم فيها طلاب يهود وعرب.
أحد الأهداف هو تعلّم اللغة-أو ما ينجحون في الاستيعاب منها- والحدّ من الرفض والمقاومة-ليروا أنّ ذلك قابل للتحقيق. لا نتوقّع ممن لم يستطع في يوم الأحد الإجابة عن السؤال “في أيّ صف تدرس”، سوى عد أصابعه، أن يتحدّث بطلاقة في يوم الخميس. ولكننا نتوقّع منه أن يكون واثقًا بالقدر الكافي لقول بضع كلمات تعلّمناها، وإدارة محادثة بسيطة”، تقول ديكلا تومر كيال، مديرة مجال التربية والتعليم في چڤعات حبيبة.
“الهدف الثاني هو اللقاء مع المعلّمة اليهوديّة. بالنسبة للعديدين منهم، إنّه اللقاء الأول مع شخص من المجتمع اليهوديّ- شخص يبتسم إليهم، يسأل عن أحوالهم، وفي اليوم الثاني أو الثالث، يتعانقون. يشكّل هذا اللقاء علامة فارقة في حياتهم. تجربة تقطيع الفواكه بأشكال مختلفة تبدو بديهيّة، ولكن بالنسبة لهم، هذا عمل إبداعيّ. مع أنّ الطلاب يخوضون تجربة ممتعة، فنحن لا نعدهم بالذهاب إلى بركة سباحة أو إلى السوبرلاند- إلّا أنّهم أتوا رغم ذلك إلى المخيّم.
“نفتتح قريبًا السنة الـ 11 من تعليم العبريّة في مدارس عربيّة، وهذه هي السنة الثانية للمخيم في نفس البلدتين- الجديّدة وجسر الزرقاء. توقيت الحرب لم يكن لصالحنا، لأنّنا أردنا أيضًا اختتام مخيّم صيفيّ للشبيبة، ولكننا سنقيم في الشتاء مخيّمًا للشبيبة من الصف العاشر-الثاني عشر، مع توجيه أكاديميّ ومهنيّ.
“سرّ الجاذبية لا يكمن في فعاليّة معيّنة أو أخرى، بل في المعاملة الشخصيّة- وهذا أكثر ما يؤثّر فيهم. لا ندرّس العبريّة رغبةً منّا في أن يتقرّب المجتمع العربيّ من المجتمع اليهوديّ، فلدينا أيضًا معهد لتعليم اللغة العربيّة. ما يهمّنا بناء تواصل وعلاقة دافئة، ونحن ندرك أنّ اللغة هي الجسر”

تقرير عومر شربيط في “زمان يسرائيل” – متاح هنا