مقالة نيتاع أحيطوڤ في “هآرتس”، 24.7.25:

في خضّم تدهور العلاقات الهشّة بين اليهود والعرب في الشرق الأوسط، في فترة تستشري فيها العنصريّة، الخوف الشديد والريبة المتبادلة، ظلّ هناك بين الأنقاض مكان واحد ووحيد تقريبًا ما زال يُسمع فيه هديل حمامات السلام. إنّها چڤعات حبيبة الواقعة على أطراف وادي عارة، حيث لا يزال نور الحياة المشتركة مشتعلًا، على الرغم من الرياح الشديدة التي تسعى لإخماده.

“الطريق المثلى لتربية الأطفال على قيم الديمقراطيّة هي التربية لمجتمع مشترك”، تقول ميخال سيلََع. “هذا ليس ترفًا وليس ‘تجربة لطيفة’ يخوضها الأطفال، بل نضال على الحق في المساواة في إسرائيل”. سيلَع هي المديرة العامّة لـچڤعات حبيبة، حيث يوجد حرمٌ ضخم، يضمّ مؤسّسات عديدة القاسم المشترك بينها هو سعيها لتحقيق مبدأ الحياة المشتركة بين اليهود والعرب في إسرائيل. تقول سيلَع “الشرخ الأعمق في إسرائيل هو بين اليهود والعرب، وهذه العلاقة ذاتها تحوي في طياتها الطريق المثلى نحو تغيير تصوّرنا للواقع. علاقتك بالمجتمع الآخر، سواء كنت يهوديّة أو عربيّة، هو أوضح مؤشّر لعلاقتك بالديمقراطيّة، المساواة وسيادة القانون. إذا كنتِ تعتقدين أنّهم مواطنون متساوون في الحقوق، هذا يعني أنّ أسس التفكير الديمقراطيّ مترسّخة لديك. يبدو أنّه في المجتمع الليبراليّ في إسرائيل، لا يدركون جيّدًا مدى أهمية المنظومة التعليميّة، والتي تتطلّب مزيدًا من الاستثمار. لا شك في أنّ هذه المهمّة صعبة، طويلة وضبابيّة، ونعي أنّ هذا الخطاب يبدو قديمًا وباليًا، بعيدًا عن واقع الحداثة والابتكار، إلّا أنّه ضروريّ لاستمراريّة الحياة الليبراليّة في إسرائيل”.

يأتي سنويًّا إلى المركز اليهوديّ-العربيّ للسلام في چڤعات حبيبة نحو 23,000 طالب، نحو 1,000 معلّم يهوديّ وعربيّ وآلاف البالغين الذي يقصدون المكان للاستمتاع (المتعة هي مركّب مهم في أنشطة جفعات حبيبة) ببرامجنا المناصرة للسلام، والتي تسعى لبناء حياة مشتركة ومتساوية. هذه البرامج لا تتغاضى عن الواقع الصعب، لكنّها تحاول تغييره. لدينا برامج أحاديّة القوميّة وأخرى مشتركة لليهود والعرب، مخيّمات، دورات، مدرسة عموميّة، دورات كرة قدم، تصوير، فنون وخزفيّات، محاضرات، مركز لتعليم اللغة العربيّة، مركز لتعليم اللغة العبريّة، برنامج إقامة للفنانين ومدرسة ثانويّة دوليّة، ثلث الطلاب فيها يهود، ثلثهم الثاني عرب والثالث من مختلف أنحاء العالم.

تشغل سيلع منصب المديرة العامّة لـچڤعات حبيبة منذ خمس سنوات. أدارت في السابق قسم التربية والتعليم في هشومير هتسعير، عملت كصحافية ومحرّرة في ريشت وفي القناة الإخباريّة الثانية، وهي المؤسِسة الشريكة لجمعية “مشروكيت” التي أقيمت في سنة 2016 بهدف كشف أكاذيب وديماغوجيّة السلطة الحاكمة والإعلام الإسرائيليّين. عملت سيلع أيضًا لعدة سنوات في الصندوق الجديد لإسرائيل وفي الكنيست، حيث كانت المساعدة البرلمانيّة للنائبة السابقة ميخال بيرن (حزب العمل)، ثم عملت في الحملة الانتخابيّة ليتسحاك هرتسوغ وتسيبي ليفني، وكمساعدة بحث لدى يولي تمير. ولطالما شجّعتها تمير على دراسة موضوع السياسة العامّة، وقد فعلت ذلك في أوكسفورد، إنجلترا. عند عودتها بعد إنهاء اللقب الثاني، أرادت العمل في الحكومة، وانتظرت تبدّل حكومة نتنياهو. وإلى أن يتحقّق ذلك، رغبت في المساهمة في المجتمع المدنيّ، والذي سرعان ما تحوّل إلى شغفها المهنيّ.

تولّت منصب المديرة العامة في چڤعات حبيبة في آذار 2021، قبل فترة وجيزة من اندلاع أحداث أيار 2021 العنيفة، حيث اعتدى مواطنون يهود وعرب على بعضهم البعض في القدس، اللد، بات يام، حيفا وغيرها. توقّع البعض أنّ الظروف الراهنة ومشاعر القلق المتزايدة ستؤدي بـچڤعات حبيبة لتقليص أنشطتها، ولكننا فعلنا عكس ذلك، فقد تلقينا في چڤعات حبيبة توجهات متزايدة للمشاركة في مختلف البرامج التي يقدّمها المركز، وذلك من أفراد ومدارس على حد سواء. حتى بعد السابع من أكتوبر، ظلّت أعداد الطلاب ثابتًة.
البرامج في چڤعات حبيبة ديناميّة ومتغيّرة، وتحرص المؤسّسة على ملاءمة مضامينها للاحتياجات الراهنة. وعليه، وفي أيام الحزن والألم والحرب، لم تُقم أيّ مجموعات مشتركة لليهود والعرب، بل مجموعات منفصلة فقط. توضّح سيلع أنّ أعضاء الطاقم التربويّ أنفسهم أعربوا عن حاجتهم لبرنامج كهذا، وفي چڤعات حبيبة، لم نتوان عن تلبية طلبهم. “بحثوا عن طرق تشجّع أبناء الشبيبة الخائفين والمحتارين، خاصةً أبناء الشبيبة العرب، الذين دفعهم الخوف لالتزام الصمت. لم يجرؤوا على قول كلمة واحدة عما كان يحدث، وشعروا بأنّهم ملاحقون. وكذلك الأمر بالنسبة للمعلّمات العربيّات في جهاز التربية والتعليم العبريّ. أدى ذلك بالعديدين منهم للتوجّه إلينا بطلب النصيحة. في أعقاب هذه التوجّهات، أدركنا أنّه يتوجب علينا الخروج من منطقة الراحة ودعم أشخاص تزيد أعمارهم عن 18 عامًا، ثم طوّرنا أيضًا برنامج قيادة يهوديّة-عربيّة يُعنى بفهم سرديّة الأخر”.

أثناء جولة في المكان، في أوج الإجازة الصيفيّة، التقيتُ بشبيبة من المجتمع العربيّ كانوا قد انتهوا للتو من تناول الأطباق التي أعدّوها خلال يوم الطهي في مخيّم اللغة العبريّة في چڤعات حبيبة. خصّص لهم المرشدون الوقت الكافي لمراجعة أسماء الأواني وأدوات المائدة، وكان واضحًا أنّهم ذوتوا جيّدًا أسماء الفواكه بالعبريّة. المساحات الخضراء، برج المياه في قلب حرم چڤعات حبيبة والهندسة المعماريّة الكيبوتسيّة التي تميّز المباني في المكان تضفي جوًا مميّزَا- من ناحية، كلّ شيء يبدو مألوفًا، يثير حنينًا للماضي تحت شمس إسرائيل الحارقة، ومن ناحية أخرى، للهدوء السائد في المكان معنى وعمق آخر. قبل بضعة أيام، اختتمت في نفس المبنى دورة تصوير مشتركة لشبيبة عربيّة ويهوديّة، والتي تركّزها جنان حلبي منذ سنوات طويلة. تقول إنّه في بادى الأمر، كانت العلاقة بين اليهود والعرب متردّدة، ولكن سرعان ما نشأت صداقات عميقة، “وهو نمط متكرّر كلّ سنة”. تفيد بأنّ نهج العمل المتبع في دورة التصوير هو إعطاء مهام مشتركة، بحيث يتوجّب على الأطفال العمل معًا. “چڤعات حبيبة هي مكان عقلانيّ في واقع جنونيّ، مكان يتّسم بالأمل والترابط والتطلّع نحو المستقبل”، تقول حلبي، والذي يستثمر كلّ الجهود اللازمة للحفاظ على علاقة مستمرة مع خرّيجي برامج التصوير، وتحرص على ألا يتأثّر الشغف بالتصوير والحياة المشتركة بالتحديات الحياتيّة في إسرائيل.

من منظور آخر
أحد برامج چڤعات حبيبة الذي يلقى إقبالَا شديدًا هو أقدمها. اسمه “أولاد يعلّمون أولادًا”، وفي إطاره، يمرّ الطلاب بسيرورة تحضيريّة في مدارسهم، ثم يلتقون في حلقات دراسيّة مشتركة في چڤعات حبيبة. مركّز البرنامج هو زكريا محاميد، والذي يفيد بأنّه بالنسبة له وللعديد من أبناء الشبيبة الذين يرشدههم، فإن “چڤعات حبيبة هي المكان الذي نشعر فيه بالأمان، ولكن عند خروجنا من بوابة هذا المكان، نشعر بأنّنا غير قادرين على تدبّر أمرنا في المجتمع الإسرائيليّ. كلّ طرف يزيد من حدّة الاستقطاب وينغلق على ذاته أكثر فأكثر. أعمل أيضًا كمدرّس للمدنيّات، وأرى التغيير في الصفوف التي أدرّسها. من الواضح أنّ هناك لحظات يأس، ولكنّي لا أبذل هذا الجهد من أجلي أنا، إنّما من أجل أبنائي وطلابي. لا يوجد لدينا مكان آخر لنذهب إليه، هذه دولتنا، ولذلك، علينا أن نجد الطرق التي تمكّننا من الاندماج فيها.

أحد سبل الاندماج هو تعليم اللغة العبريّة للطلاب العرب، وتعليم العربيّة للطلاب اليهود. ينفّذ في چڤعات حبيبة مشروع مميّز، وفي إطاره، يحضر معلّمون يهود إلى مدارس عربيّة ويدرّسون العبريّة للطلاب العرب. “أن تكون المعلّم اليهوديّ الوحيد في مدرسة عربيّة قد يكون مصدر قلق وتوتّر”، تقول سيلع. “العديدون منهم لا يجيدون العربية، وبعض المدارس تقع في بلدات وقعت فيها حوادث قتل. مع ذلك، يلقى البرنامج رواجًا واسعًا، سواء لدى المعلّمين اليهود المعنيّين بالانضمام للبرنامج أو في المدارس العربيّة التي تدعو هؤلاء المعلّمين للانضمام إليها. يحظى كل معلّم يهودي بمرافقة من معلّم عربيّ من المدرسة التي اندمج فيها، وأحيانًا حتى ركوبه السيارة أو مغادرة البلدة. نشأت صداقات رائعة بين المعلّمين اليهود والعرب. بعد الـسابع من أكتوبر، ظنّنا أنّه من المستحيل أن يعود المعلّمون اليهود إلى التدريس في بلدة عربية، ولكننا صدمنا بأنّه بعد مرور أسبوعين فقط على أحداث السابع من أكتوبر، جميع المعلّمين المشاركين في البرنامج، والذي يصل عددهم إلى العشرات، باستثناء معلّمة واحدة، عادوا للتدريس، وما زالوا يفعلون ذلك حتى الآن. كان ذلك من الأشياء القليلة التي أعطتني أملًا في تلك الفترة”.

بعد السابع من أكتوبر، استقبل كامبوس چڤعات حبيبة بمبادرة منه 300 نازح من سديروت، نتيـڤوت، أوفاكيم وأشكلون. البعض منهم حراّس سجون، حرّاس وأخصائيّون مهنيّون آخرون يحملون رخصة سلاح. وفي الوقت نفسه، تجوّل في چڤعات حبيبة العديد من العرب الذين تحدّثوا بالعربيّة. أدركت سيلّع فجأة “أن المكان أشبه بقدر ضغط خطير. فمن ناحية، هناك 300 نازح يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة بمختلف المستويات. من ناحية أخرى، هناك عدد كبير من العرب من مختلف الأجيال”. لتجنّب التوتّر، بادرت سيلَع لدعوة جميع المقيمين في چڤعات حبيبة إلى محادثة مشتركة، حيث تحدّثت عن المكان وأنشطته، وشرحت أنّه قد يواجهون أحيانًا مواقف ربما سيسيئون فهمها، ولكنّها في الواقع تعكس النهج التربويّ في چڤعات حبيبة- على سبيل المثال، شخصان يتجادلان بالعربيّة. طلبت ألّا يسارعوا لإطلاق النار على أيّ شخص. “أشهر الاستضافة انتهت دون أي مواجهة يهوديّة-عربيّة، ومع الكثير من المشاهد الرائعة لأطفال يهود متدينين، نازحين من الجنوب، يلعبون كرة القدم مع أطفال عرب من المنطقة”.

“أيدينا تغوص عميقًا في الوحل”، تقول سيلع، وتقصد بذلك أنّ چڤعات حبيبة لا تعنى بالحملات، الأبحاث أو تغيير الخطاب العام بل بالتربية الشاقة، اليوميّة والمليئة بالتحديات، والتي لا تعود عليهم دومَا بالفائدة المنشودة، وفي أماكن ذات طبيعة مركّبة في المجتمع الإسرائيليّ- بلدات عربيّة تعاني من تفشي الجريمة أو بلدات يهوديّة لحقت بها أضرار جسيمة. لا يتجاهلون أيّة شريحة سكانية، ويسوقون لأنشطتهم في جميع أنحاء البلاد.

اكتسبت سيلع نهج الغوص المباشر في أعماق المجتمع، في مكان غير متوقّع. أحد التحقيقات التي شاركت فيها كصحافيّة في “ريشت” كان فيلم وثائقيّ عن “شباب التلة”. في إطار التحقيق، قضت شهورًا طويلة مع شباب التلة وقادة المستوطنات. “قضيت ساعات طويلة مع إيتمار بن غفير وبنتسي غوفشطاين”، تقول سيلع. “القلة القليلة في المجتمع الليبراليّ في إسرائيل يعرفونهم ويعرفون تركيبة “شباب التلة” مثلي أنا. ما رأيته هناك وتعلّمته منهم هو سيرورة ممنهجة بدأت منذ سنوات طويلة، تشمل الكثير من الاستثمار في بناء قيادة استنادًا إلى العمل الميدانيّ. مع أنّهم طوّروا قيادة مريضة، إلّا أنّهم يجيدون العمل مع الشبيبة وتجنيدهم لخدمة “الهدف”. على سبيل المثال، رئيس مكتب بن غفير تتلمذ على يده في “شباب التلة”، والذي وجد أنّ هذا المنصب كان جديرًا بالاستثمار لمدة عقدين من الزمن. إذا أردنا من ضباط الجيش الإسرائيليّ عدم السعي “للقضاء” على الفلسطينيّين، كما يفعل البعض من الضباط حاليًا في غزة، وألّا يخرجوا في “حروب الرب”، بل في حروب تهدف إلى الحفاظ على أمن وسلامة دولة إسرائيل، يجب أن نبدأ بالتربية. لا توجد طرق مختصرة”.

ما هي المضامين التي يروّج لها المستوطنون الأيديولوجيّون من الناحية التربويّة؟

“إنّهم يعتبرون أنفسهم طلائعيّين يعيشون في الغرب المتوحّش. إذا أضفت العقيدة، الإيثار، العنصريّة، الكراهيّة، العنف، وإلى جانب كل ذلك قادة ذوي حضور وجاذبيّة ومتحمّسين لتحقيق الهدف- ستحصلين على تجربة شبابيّة حماسيّة، يسودها الشعور بالقوة اللامتناهية. إنّهم يقولون لأبناء الشبيبة “أنتم القانون، أنتم أصحاب القرار، لا يوجد سوى الأرض، أنتم والله”. ولهذا الشعار أثر عميق. هناك أيضًا منظومة التعليم الرسميّ الأشبه بمصنع ضخم يضمّ آلات تربّي على الإيمان والتضحية. إنّهم يفعلون ذلك منذ 20 عامًا، وفي السنوات الأخيرة، بدؤوا يحصدون ثمار جهودهم هذه في السلطة الحاكمة.

يجب إدانة التربية المسيانيّة المتطرفّة للمستوطنين، وفي الوقت نفسه، معرفة طرق عملهم”، تتابع سيلََع، “لأنّهم في بادئ الأمر تعلّموا منا. اتخذوا الاستيطان العماليّ نموذجًا، تبنّوا طرق العمل، الشَغَف والحماس، روح الجماعة الذي شكّل ركيزة أساسيّة في تأسيس الكيبوتسات والرغبة في أن يكونوا نخبة خادمة، وأدخلوا إليها قيمًا مشوّهة. وبما أنّي ترعرعت في حركة “هشمومير هستعير”، وجدت في “شباب التلة” إطارًا مَرَضيًّا. إنّه نفس الإطار، سُكبت داخله قيم فاسدة. شاهدت مؤخّرًا فيديو لشجار بين شبيبة يهود مقدسيّين وعمّال عرب في سينما سيتي في القدس. هتف أبناء الشبيبة اليهود “الموت للعرب”- وذلك نابع من انعدام مطلق للحدود في جهاز التربية والتعليم العبريّ. بدلًا من تربيتهم على التصرّف السليم، فإنّ التربية الاستيطانيّة تتغلغل وتقترب منهم في جهاز التربية والتعليم العموميّ. إنّها نخبة خادمة نجحت في إفساد العمود الفقريّ الأخلاقيّ داخل “الخط الأخضر”.

لماذا نجحوا في غرس وترسيخ أيديولوجيتهم لدى أبناء الشبيبة؟

“الساسة الذين يمثّلوننا ظاهريًّا ارتكبوا سلسلة من الأخطاء السياسيّة. أولًا ، منذ ميرتس، لم يحارب أيّ حزب ديمقراطيّ ليبراليّ من أجل ملّف التربية والتعليم. الأحزاب الدينيّة-القوميّة حاربت من أجل هذا الملف، وهو من أكبر ملفات في الحكومة- بحيث تبلغ ميزانيته 70 مليار شيكل. وعليه، تُرك التعليم الرسميّ العاديّ بين أيدي قوى أدخلت إليه مضامين دينيّة، مناهضة للديمقراطيّة، غير علميّة وغير متكافئة. نرى ذلك في كل خارطة معلّقة على كلّ جدار في المدرسة- حيث لا يظهر الخط الأخضر أو مناطق الضفة. يجلس طفل في مدرسة عموميّة في مركز تل أبيب، ينظر إلى هذه الخارط، ويعتقد أنّه يستطيع الذهاب إلى رام الله بالسكوتر”.

ما هي القوة المضادة التي يمكن استخدامها في الاتجاه الليبرالي المناصر للسلام؟

“لا توجد حاليًا قوة مضادة حقيقيّة. هناك غضب في صفوف العلمانيّين بسبب الطابع الدينيّ الذي تمّ إضفاؤه على المنظومة التعليميّة. أنّه نضال مهم وواضح المعالم، ولكن علينا أن نضيف إلى هذه المقاومة مبادئ إيجابيّة، بدلًا من التركيز على ما هو مرفوض فقط. التربية لا يمكنها أن تقتصر على الاعتراض، يجب ملء الفراغ ولا يمكننا الاعتماد على الأهالي فقط. يرى المعسكر الديمقراطيّ أنّ أهم ما في الأمر هو تذكير الجمهور في إسرائيل بأنّه مُحب للديمقراطيّة ولأخيه الإنسان، لذلك، نجدهم يستثمرون ميزانية مليون شيكل في حملة تسلط الضوء على أهمية الديمقراطيّة. ولكن المشكلة هي أنّنا لم نعد هناك. على مدار سنوات طويلة، حرصوا على اقتحام المنظومة التعليميّة، تغلغلوا فيها، أخرجوا منها المضامين الليبراليّة-الديمقراطيّة التي تنادي بالمساواة وأدخلوا مضامين فاسدة أخلاقيًّا. أبناؤنا ليسوا الآن في موقع يحتاجون فيه للتذكير، إنّهم في الواقع بأمسّ الحاجة للتربية من الأساس. أقدّر جدًا الأبحاث والحملات، ولا يمكن لي أن أستهين بها قطعًا، ولكنّي أعرف أيضًا أنّنا إن لم نستثمر في التربيّة وفي قيادة نشاط ميدانيّ جذريّ، فإنّنا سنخسر الكثير، وعلى المدى البعيد أيضًا دون أدنى شك. لقد فقد جيل كامل الوعي السياسيّ، الرغبة في التداخل والمشاركة، المفهوم الأساسيّ لمعنى الديمقراطيّة وأهمية المساواة كشرط أساسيّ لتحقيق الديمقراطيّة. علينا أن نعيد بناء المنظومة التعليميّة التي ستربّي قادة المستقبل. لا ضير في إجراء حملات لناخبي لبيد لإعادتهم “إلى البيت”، إلى قيم الديمقراطيّة القائمة على المساواة، ولكن علينا أن نعالج أيضًا المادة الخام للمواطنين. هذه المادة الخام هي الأطفال وأبناء الشبيبة”.

كيف نحقّق ذلك على أرض الواقع؟ كيف تبدو التربية للمجتمع المشترك؟

“يجب أولًا اكتشاف تركيبة المجتمع الإسرائيليّ. ستفاجئين بأنّ العديد من الطلاب في إسرائيل لا يعرفون شيئَا عن الشرائح السكانيّة الأخرى. لا يعرفون أنّه يوجد في إسرائيل مواطنون مسلمون ودوز ومسيحيّون، أنّ هناك فرقًا بين مواطن إسرائيليّ-عربيّ، وفلسطينيّ يسكن في الأراضي المحتلة، ولا يعرفون شيئًا بالتأكيد عن المكانة الخاصّة لسكان القدس العرب. يوجد في حلقاتنا الدراسيّة مرشد ناطق بالعبريّة وآخر ناطق بالعربيّة، وهناك قواعد مشدّدة ومختلفة عن القواعد الإسرائيليّة لإدارة حوار. يجب الإصغاء للطرف الآخر والتحدّث عندما يحين دورك فقط، وخلال اللقاء، يتعلّمون عن أوجه الشبه والاختلاف بينهم، وعن مصالحهم المشتركة. ففي نهاية المطاف، جميعنا مواطنون في دولة إسرائيل وجميعنا يرغب في العيش بهدوء وسلام في هذه البلاد. حماية البيئة مثلًا هي مصلحة مشتركة. إنّهم شبيبة، لذلك، فإنّ مجالات الاهتمام المشتركة عديدة- كرة قدم، الموضة، الموسيقى وغير ذلك. سرعان ما تتخذ هذه اللقاءات شكل لقاءات شبابيّة روتينيّة، حيث يتناولون مواضيع تهمّ أبناء جيلهم”.

كيف نحيّد مظاهر العنصريّة في اللقاءات المشتركة؟

“من خلال موراتوريوم تربويّ”، تقول سيلاع. صاغ المفهوم المحلّل النفسيّ الأمريكيّ أريك أريكسون. يقصد بذلك توفير حيّز مفتوح لأبناء الشبيبة لخوض مختلف التجارب والإمكانيّات، وتأدية أدوار اجتماعيّة مختلفة دون التعرّض للأحكام أو النقد، وذلك ليتمكّنوا من بلورة هويتهم بشكل مستقلّ، استعدادًا للاندماج في المجتمع كبالغين. تصف سيلع الموراتوريوم التربويّ الذي ينادون به: “تخيّلي حيّزًا آمنًا محاطًا بحدود ليّنة، مثل صالة رياضيّة وضعت على أرضيتها وجدرانها فَرشات عديدة. أنت تتحرّكين داخلها وتشعرين بالقدر الكافي من الأمان الذي يسمح لك بارتكاب أخطاء، لأنّك تعرفين أنّك لن تصابي بأذى. حتى إذا وصلت إلى هذه الحدود، فإنّها لن تؤلمك، بل ستجعلك تعودين إلى مركز الحيّز. هذا هو الحيّز الذي يجب أن توفّريه للطفل لكيّ تحدث العمليّة التربويّة، يجب أن يشعر بالقدر الكافي من الأمان الذي يسمح له بالتعبير عمّا يزعجه، دون أن تكون لذلك عواقب وخيمة. ولكن عند بلوغه الحدود، يجب إعادته إلى الحيّز المتّفق عليه. هكذا نحيّد مظاهر العنصريّة”.

يبدو أنّه يوجد في إسرائيل موراتوريوم تربويّ لليهود فقط. فبينما يستطيع اليهود أن يقولوا أشياءً مروعة عن العرب دون أيّة عواقب، لا يجوز للعرب أن يفعلوا ذلك.

“سأعطيك مثالًا على ذلك. في أحد اللقاءات المشتركة التي أقمناها بعد السابع من أكتوبر بفترة وجيزة، قالت فتاة عربيّة لأخرى يهوديّة جملة مفادها “من الواضح أنّي معترضة عمّا حدث في السابع من أكتوبر، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن ننسى التاريخ، لا يمكننا أن ننسى الاحتلال”. استنتجت الفتاة اليهوديّة أنّ الفتاة العربيّة تدعم ما حصل في السابع من أكتوبر، وبالنسبة لها، هذا يعنيّ أنّها تؤيد القتل، الاغتصاب والاختطاف. كانت منفعلة جدًا. دعونا لا ننسى أيضًا أنّ هناك فروقَا في اللغة التي قد تشكّل عائقًا، واختلافات في التوجّه. فبينما يتحدّث الطلاب اليهود بشكل عام بحريّة نسبيّة، وهم معتادون على خوض جدالات، نجد أنّ الطلاب العرب أقل اعتيادًا على ذلك”.

وكيف تطوّرت الأمور بعد ذلك؟

“اتصلت الفتاة اليهوديّة بوالدتها وقالت لها إنّ هناك ‘أشخاصًا داعمين للإرهاب’، وطلبت منها أن تأتي لتعيدها إلى المنزل. اتصلت الأم بنا لتبلغنا بأنّها تنوي تقديم شكوى لدى الشرطة ضد الفتاة العربيّة، وأنّها في طريقها لاصطحاب ابنتها من المكان. لو كانت قدّمت شكواها هذه، من المرجّح أنّ الفتاة العربيّة، وربّما أفراد أسرتها أيضًا والطاقم التربويّ في المدرسة التي تتعلّم فيها، كانوا سيعتقلون. كانوا سيقتادونها معصوبة العينين، ويفتحون لها ملّفًا في الشرطة. لا أتحدّث هنا عن سيناريو متخيّل. طلبنا منها ألّا تقدّم شكوى قبل أن نتحدّث وجهًا لوجه. وحتى قدومها، كانت ابنتها قد نسيت الموقف، ولم ترغب في مغادرة السمينار لأنّها استمتعت به. اضطررنا لتهدئة الأم التي قالت إنّها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، الأمر الذي يفسّر رد فعلها هذا. وفي تلك الأثناء، حضرت عائلة الفتاة العربيّة إلى چڤعات حبيبة أيضًا في أعقاب اتصال ابنتهم بهم، وكما هو متوقّع- أحضروا معهم طعامًا شهيًا للجميع، واختتم اليوم بوليمة احتفاليّة وبعناق وصداقة حقيقيّة بين العائلتين. نجحنا في حلّ هذه المشكلة بواسطة التفكير في حيّز آمن، فيه، تحدثّت الفتاتان فيما بينهما بدون إصدار أحكام، وحرصتا على الإصغاء لبعضها البعض، وضّحت كل منهما موقفها، واستعادتا البهجة التي تميّز الفتيات في هذه السنّ. الشعور السائد هنا منذ السابع من أكتوبر هو أنّ أبناء الشبيبة يسيرون على الأشواك، مثل الكبار المحيطين بهم، ولكن هنا، يتوفّر لهم حيّز للتفكير والتحليل والالتقاء بالآخر”.

من المفاجئ أنّكم تتعاونون بشكل وثيق مع وزارة التربية والتعليم. ما هو الدرس المستفاد الذي خلصتِ إليه من التعاون معها؟

“عندما نتحدّث عن التربية والتعليم في إسرائيل، ترتسم في مخيلتك أولًا صورة مؤسفة ويسمع الادّعاء أنّه ليس هناك أيّ أمل، ولكنّي أعتقد خلاف ذلك تمامًا- فهذا الإطار يحوي في طياته أكبر قدر من الأمل. لا توجد في أية دولة في العالم منظومة تعليميّة بهذا القدر من المركزيّة مثل دولة إسرائيل. وزارة التربية والتعليم توظّف جميع المعلّمين، تتحكّم بالمواد التعليميّة، وجميع السكان تقريبًا يرسلون أبناءهم إلى مدارس عموميّة. لا مثيل لذلك في أيّ مكان في العالم. لذلك، نحن أمام منظومة تعليميّة تمكّننا من تحقيق الإصلاح المنشود بسهولة نسبيّة. أعرف شخصيًا الكثير من الأشخاص الرائعين والمتفانين من الكوادر التربويّة، المدارس وموظّفي وزارة التربية والتعليم المستعدين لتحقيق هذه الرسالة”.

هناك شعور معاكس، وهو أنّ المركزيّة هي أداة تحكّم توظّفها الحكومة لترسيخ أجندتها القوميّة-الدينيّة، خلافًا للتربية الليبراليّة.

“لا شك في أنّ الوضع الحاليّ لا يخدم التربية الليبراليّة، ولكن يمكننا بكل سهولة قلب الأمور رأسًا على عقب. أجمل ما في مجال التربية هو أنّه هناك دومًا مجالًا للإصلاح. بالإمكان مثلًا رفع مكانة المعلّمين، خاصةً تحسين مكانة المعلّمات العربيّات. يكفي أن يقول وزير التربية والتعليم شيئًا إيجابيًّا عن المعلّمين، أن يعرب عن دعمه لهم، أن يتحدّث عن أهمية هذه المهنة، وسترين فورًا كيف ستتغيّر صورتهم. ألتقي بمعلّمين خائفين، متعبين، لا يتقاضون أجرًا عاليَا، شفافين، وفوق هذا كلّه، هناك من يصرخ في وجوههم! ولكن من ناحية أخرى، المعلّمون هم الأشخاص الأكثر اكتفاء بعملهم. إنّهم يحبون التدريس، لديهم شغف بالتربية والتعليم، وقدر عال من الاهتمام بطلاب. عندما يشعر المعلّم بالاكتفاء في عمله، لا يوجد مثيلًا لذلك في مهنة أخرى. أدرك أنّه في الوقت الحالي، كل شيء يبدو مروعًا ومحبطًا، ولكنّي أؤكّد لك بكل تأكيد أنّ الغالبية العظمى من المواطنين في إسرائيل، الكبار والصغار على حد سواء، يريدون العيش بخير وسلام، ويتطلّعون إلى مستقبل أفضل. ألتقي هناك بأشخاص عديدين من شرائح سكانيّة مختلفة، الذين يسمعون أشياءً صعبة في البيت، وبعد حضور لقاءات معدودة فقط، يغيّرون من تصوّرهم للآخر بشكل جذريّ. الحياة المشتركة الصحيّة قابلة للتحقيق وأنا أرى ذلك يوميًّا”.

المقالة في الصحيفة الإلكترونيّة – هنا.

تصوير: دافيد بيخر